وقيل: الحفدة الأختان، وهم أزواج البنات، ومنه قول الشاعر: فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس علي أبية عيوف لإصهار اللثام قذور
والقذور: التي تتنزه عن الوقوع فيما لا ينبغي، تباعدًا عن التدنس بقذره.
قال مقيده عفا الله عنه: الحفدة: جمع حافد، اسم فاعل من الحفد وهو الإسراع في الخدمة والعمل. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة قول بعض العلماء في الآية. فنبين ذلك.
وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد. لأن قوله {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم، وذلك دليل على أنهم كلهم من أولاد أزواجهم. ودعوى أن قوله "وحفدةً" معطوف على قوله "أَزْوَاجًا" غير ظاهرة. كما أن دعوى أنهم الأختان، وأن الأختان أزواج بناتهم، وبناتهم من أزواجهم، وغير ذلك من الأقوال ـ كله غير ظاهر. وظاهر القرآن هو ما ذكر، وهو اختيار ابن العربي المالكي والقرطب وغيرهما. ومعلوم: أن أولاد الرجل، وأولاد أولاده: من خدمه المسرعين في خدمته عادة. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
في قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} ـ رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها.
حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منهم، وكان يخبؤوها عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر. فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة، فقالت: عمرو? ونفرت. فلم يرها أبدًا. ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور: ألا لحى الله بني السعلاة عمرو بن يربوع لئام النات
ليسوا بأعفاف ولا أكيات
وقوله "النات" أصله "الناس" أبدلت فيه السين تاء. وكذلك قوله "أكيات" أصله "أكياس" جمع كيس، أبدلت فيه السين تاء أيضًا. وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان، إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها. فزعم أنه يستر عنها البرق لئلا يشوقها إلى أوطانها كما كان عمرو يستره عن سعلاته: إذا لاح إيماض سترت وجوهها كأني عمرو والمطي سعالى
والسعلاة: عجوز الجن. وقد روي من حديث أبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحد أبوي بلقيس كان جنِّيًّا".
قال صاحب الجامع الصغير: أخرجه أبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه في التفسير، وابن عساكر: وقال شارحه المنَاوي: في إسناده سعيد بن بشر قال في الميزان عن ابن معين: ضعيف. وعن ابن مسهر: لم يكن ببلدنا أحفظ منه، وهو ضعيف منكر الحديث، ثم ساق من مناكيره هذا الخبر. وبشير بن نهيك أورده الذهبي في الضعفاء. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. ووثقه النسائي. انتهى.
وقال المناوي في شرح حديث "أحد أبوي بلقيس كان جنيًا" قال قتادة: ولهذا كان مؤخر قدميها كحافر الدابة. وجاء في آثار: أن الجني الأم، وذلك أن أباها ملك اليمن خرج ليصيد فعطش، فرفع له خباء فيه شيخ فاستسقاه، فقال: يا حسنة اسقي عمك. فخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت. فخطبها من أبيها، فذكر أنه جني، وزوجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها. فأتت منه بولد ذكر، ولم يذكر قبل ذلك، فذبحته فكرب لذلك، وخاف أن يسألها فتبين منه. ثم أتت ببلقيس فاظهرت البشر فاغتم فلم يملك أن سألها، فقالت: هذا جزائي منك? باشرت قتل ولدي من أجلك? وذلك أن أبي يسترق السمع فسمع الملائكة تقول: إن الولد إذا بلغ الحلم ذبحك، ثم استرق السمع في هذه فسمعهم يعظمون شأنها، ويصفون ملكها، وهذا فراق بيني وبينك. فلم يرها بعد. هذا محصول ما رواه ابن عساكر عن يحيى الغساني اهـ من شرح المنَاوي للجامع الصغير.
وقال القرطبي في تفسير "سورة النحل": كان أبو بلقيس وهو السرح بن الهداهد بن شراحيل، ملكًا عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفأ لي. وأبى أن يتزوج منهم. فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن. فولدت له بلقمة وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها. وقال أبو هريرة: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "كان أحد أبوي بلقيس جنيًا" ـ إلى أن قال: ـ ويقال إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرًا لملك عات، يغتصب نساء الرعية، وكان الوزير غيورًا فلم يتزوج. فصحب مرة في الطريق رجلًا لا يعرفه فقال: هل لك من زوجة؟ فقال: لا أتزوج أبدًا. فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن. فقال: لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدًا. قال: بل يغتصبها? قال: إنا قوم من الجن لا يقدر علينا. فتزوج ابنته فولدت له بلقيس ـ إلى غير ذلك من الروايات.
وقال القرطبي أيضًا: وروى وهيب بن جرير بن حازم، عن الخليل بن أحمد، عن عثمان بن حاضر قال: كانت أم بلقيس من الجن، يقال لها: بلعمة بنت شيصان.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنيًا ضعيف،
وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت.
مسألة
اختلف العلماء في جواز المناكحة بين بني آدم والجن.
فمنعها جماعة من أهل العلم، وأباحها بعضهم.
قال المناوي (في شرح الجامع الصغير): ففي الفتاوى السراجية للحنفية: لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء. لاختلاف الجنس. وفي فتاوى البارزي من الشافعية: لا يجوز التناكح بينهما. ورجح ابن العماد جوازه اهـ.
وقال الماوردي: وهذا مستنكر للعقول. لتباين الجنسين، واختلاف الطبعين. إذ الآدمي جسماني، والجني روحاني. وهذا من صلصال كالفخار، وذلك من مارج من نار، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع اهـ.
وقال ابن العربي المالكي: نكاحهم جائز عقلًا. فإن صح نقلًا فبها ونعمت.
قال مقيده عفا الله عنه: لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم نصًا يدل على جواز مناكحة الإنس الجن، بل الذي يستروح من ظواهر الآيات عدم جوازه. فقوله في هذه الآية الكريمة: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}. ممتنًا على بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم ـ يفهم منه أنه ما جعل لهم أزواجًا تباينهم كمباينة الإنس للجن، وهو ظاهر.
ويؤيده قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. فقوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} في معرض الامتنان ـ يدل على أنه ما خلق لهم أزواجًا من غير أنفسهم. ويؤيد ذلك ما تقرر في الأصول من "أن النكرة في سياق الامتنان تعم" فقوله: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} جمع منكر في سياق الامتنان فهو يعم، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا، أي من نوعنا وشكلنا. مع أن قومًا من أهل الأصول زعموا "أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم". والتحقيق أنها في سياق الإثبات لا تعم، وعليه درج في مراقي السعود حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح: منه منكر الجموع عرفا وكان والذي عليه انعطفا
أما في سياق الامتنان فالنكرة تعم. وقد تقرر في الأصول "أن النكرة في سياق الامتنان تعم"، كقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} أي فكل ماء نازل من السماء طهور. وكذلك النكرة في سياق النفي أو الشرط أو النهي. كقوله: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}، وقوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً}. ويستأنس لهذا بقوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} فإنه يدل في الجملة على أن تركهم ما خلق الله لهم من أزواجهم، وتعديه إلى غيره يستوجب الملام، وإن كان أصل التوبيخ والتقريع على فاحشة
اللواط. لأن أول الكلام {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} فإنه وبخهم على أمرين: أحدهما ـ إتيان الذكور. والثاني ـ ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم.
وقد دلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم، هو الكائن من أنفسهم. أي من نوعهم وشكلهم. كقوله: {والله جعل لكم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}، فيفيد أنه لم يجعل لهم أزواجًا من غير أنفسهم. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقًا من السموات بإنزال المطر، ولا من الأرض بإنبات النبات. وأكد عجز معبوداتهم عن ذلك بأنهم لا يستطيعون، أي لا يملكون أن يرزقوا. والاستطاعة منفية عنهم أصلًا. لأنهم جماد ليس فيه قابلية استطاعة شيء.
ويفهم من الآية الكريمة: أنه لا يصح أن يعبد إلا من يرزق الخلق. لأن أكلهم رزقه، وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية الكريمة بينه جل وعلا في مواضع أخر، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وقوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}، وقوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ}، وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}، وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، وقوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
في قوله {شَيْئًا} في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من الإعراب:
الأول ـ أن قوله {رِزْقًا} مصدر، وأن {شَيْئًا} مفعول به لهذا المصدر. أي ويعبدون من دون الله ما لا يملك أن يرزقهم شيئًا من الرزق. ونظير هذا الإعراب قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} فقوله {يَتِيمًا} مفعول به للمصدر الذي هو إطعام. أي أن يطعم يتيمًا ذا مقربة. ونظيره من كلام العرب قول المرار بن منقذ التميمي: بضرب بالسيوف رؤوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل
فقوله "رؤوس قوم" مفعول به للمصدر المنكر الذي هو قوله "بضرب" وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله: بفعله المصدر ألحق في العمل مضافًا أو مجردًا أو مع ال
الوجه الثاني ـ أن قوله {شَيْئًا} بدل من قوله {رِزْقًا} بناء على أن المراد بالرزق هو ما يرزقه الله عباده. لا المعنى المصدري.
الوجه الثالث ـ أن يكون قوله {شَيْئًا} ما ناب عن المطلق من قوله {يَمْلِكُ} أي لا يملك شيئًا من الملك، بمعنى لا يملك ملكًا قليلًا أن يرزقهم. قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ}.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال. أي يجعلوا له أشباهًا ونظراء من خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا!
وبين هذا المعنى غير هذا الموضع. كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ}، وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ}. أظهر الأقوال فيها: أن المعنى أن الله إذا أراد الإتيان بها فهو قادر على أن يأتي بها في أسرع من لمح البصر. لأنه يقول للشيء كن فيكون. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}.
وقال بعض العلماء: المعنى هي قريب عنده تعالى كلمح البصر وإن كانت بعيدًا عندكم. كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً}، وقال: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}. واختار أبو حيان (في البحر المحيط): أن "أو" في قوله "أو هو أقرب" للإبهام على المخاطب، وتبع في ذلك الزجاج، قال: ونظيره {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}، وقوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً}. قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أخرج بني آدم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، وجعل لهم الأسماع والأبصار والأفئدة. لأجل أن يشكروا له نعمه. وقد قدمنا:
أن "لعل" للتعليل. ولم يبين هنا هل شكروا أو لم يشكروا. ولكنه بين في مواضع أخر: أن أكثرهم لم يشكروا. كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}، وقال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
لم يأت السمع في القرآن مجموعًا، وإنما يأتي فيه بصيغة الإفراد دائمًا، مع أنه يجمع ما يذكر معه كالأفئدة والأبصار.
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائمًا: أن أصله مصدر سمع سمعًا، والمصدر إذا جعل اسمًا ذكر وأفرد. كما قال في الخلاصة:
ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن تسخيره الطير في جو السماء ما يمسكها إلا هو ـ من آياته الدالة على قدرته، واستحقاقه لأن يعبد وحده. وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}.
تنبيه
لم يذكر علماء العربية الفعل (بفتح فسكون) من صيغ جموع التكسير. قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية: أن الفعل (بفتح السكون) جمع تكسير لفاعل وصفًا لكثرة وروده في اللغة جمعًا له.
كقوله هنا: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} فالطير جمع طائر، وكالصحب فإنه جمع صاحب. قال امرؤ القيس: وقوفًا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل
فقوله "صحبي" أي أصحابي. وكالركب فإنه جمع راكب. قال تعالى: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} وقال ذو الرمة: أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا أم راجع القلب من أطرابه طرب
فالركب جمع راكب. وقد رد عليه ضمير الجماعة في قوله "عن أشياعهم". وكالشرب فإنه جمع شارب. ومنه قول نابغة ذبيان: كأنه خارجًا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد
فإنه رد على الشرب ضمير الجماعة في قوله "نسوه.." إلخ وكالسفر فإنه جمع سافر. ومنه حديث: "أتموا فإنا قوم سفر". وقول الشنفرى: كأن وغاها حجرتيه وجاله أضاميم من سفر القبائل نزل
وكالرجل جمع راجل. ومنه قراءة الجمهور {وَأَجْلِبْ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} بسكون الجيم. وأما على قراءة حفص عن عاصم بكسر الجيم فالظاهر أن كسرة الجيم إتباع لكسرة اللام.
فمعناه معنى قراءة الجمهور. ونحو هذا كثير جدًا في كلام العرب، فلا نطيل به الكلام. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة منته على خلقه. بأنه جعل لهم سرابيل تقيهم الحر، أي والبرد. لأن ما يقي الحر من اللباس يقي البرد. والمراد بهذه السرابيل: القمصان ونحوها من ثياب القطن والكتان والصوف. وقد بين هذه النعمة الكبرى في غير هذا الموضع. كقوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، وقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. أي وتلك الزينة هي ما خلق الله لهم من اللباس الحسن. وقوله هنا {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} المراد بها الدروع ونحوها، مما يقي لابسه وقع السلاح، ويسلمه من بأسه.
وقد بين أيضًا هذه النعمة الكبرى، واستحقاق من أنعم بها لأن يشكر له في غير هذا الموضع. كقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ}. وإطلاق السرابيل على الدروع ونحوها معروف. ومنه قول كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}. ذكر جل وعلا في هذة الآية الكريمة: أن الكفار يعرفون نعمة الله. لأنهم يعلمون أنه هو الذي يرزقهم ويعافيهم، ويدبر شؤونهم، ثم ينكرون هذه النعمة. فيبعدون معه غيره، ويسوونه بما لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئًا.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.
فقوله: {فَسَيَقُولُونَ اللّهُ} دليل على معرفتهم نعمته. وقوله: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} دليل على إنكارهم لها. والآيات بمثل هذا كثيرة جدًا.
وروي عن مجاهد: أن سبب نزول هذه الآية الكريمة: أن أعرابيًا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فسأله. فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} فقال الأعرابي: نعم? قال: {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً}. قال الأعرابي: نعم? ثم قرأ عليه كل ذلك يقول الأعرابي: نعم? حتى بلغ {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} فولى الأعرابي. فأنزل الله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}. وعن السدي رحمه الله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ} أي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم ينكرونها. أي يكذبونه وينكرون صدقه.
وقد بين جل وعلا: أن بعثة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم من منن الله عليهم. كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ}. وبين في موضع آخر: أنهم قابلوا هذه النعمة بالكفران. وذلك في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}. وقيل: يعرفون نعمة الله في الشدة، ثم ينكرونها في الرخاء. وقد تقدمت الآيات الدالة على ذلك، كقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}، ونحوها من الآيات ـ إلى غير ذلك من الأقوال في الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} قال بعض العلماء: معناه أنهم كلهم كافرون. أطلق الأكثر وأراد الكل. قاله القرطبي والشوكاني. وقال الشوكاني: أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم. أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل. قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة متعلق الإذن في قوله {لاَ يُؤْذَنُ} ولكنه بين في (المرسلات) أن متعلق الإذن الاعتذار. أي لا يؤذن لهم في الاعتذار، لأنهم ليس لهم عذر يصح قبوله، وذلك في قوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}.
فإن قيل: ما وجه الجمع بين نفي اعتذارهم المذكور هنا، وبين ما جاء في القرآن من اعتذارهم. كقوله تعالى عنهم: {وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وقوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ}، وقوله: {بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً}، ونحو ذلك من الآيات.
فالجواب ـ من أوجه:
منها ـ أنهم يتعذرون حتى إذا قيل لهم: أخسؤوا فيها ولا تكلمون، انقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق. كما قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ}.
ومنها ـ أن نفي اعتذارهم يراد به اعتذار فيه فائدة. أما الاعتذار الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم، يصدق عليه في لغة العرب: أنه ليس بشيء، ولذا صرح تعالى بأن المنافقين بكم في قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ} مع قوله عنهم:
{وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. وقال عنهم أيضًا: {ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} فهذا الذي ذكره جل وعلا من فصاحتهم وحدة ألسنتهم، مع تصريحه بأنهم بكم ـ يدل على أن الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء، كما هو واضح. وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي: وإن كلام المرء في غير كنهه لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
وقد بينا هذا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في مواضع منه. والترتيب بـ "ثمَّ" في قوله في هذه الآية الكريمة: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} على قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} لأجل الدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع من الاعتذار المشعر بالإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم بكفرهم. قوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. اعلم أولًا ـ أن استعتب تستعمل في اللغة بمعنى طلب العتبى. أي الرجوع إلى ما يرضي العاتب ويسره. وتستعمل أيضًا في اللغة بمعنى أعتب: إذا أعطى العتبى. أي رجع إلى ما يحب العاتب ويرضى، فإذا علمت ذلك ـ فاعلم أن في قوله: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} وجهين من التفسير متقاربي المعنى.
قال بعض أهل العلم: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا تطلب منهم العتبى، بمعنى لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، فلا يردون إلى الدنيا ليتوبوا.
وقال بعض العلماء: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي يعتبون، بمعنى يزال عنهم العتب، ويعطون العتبى وهي الرضا. لأن الله لا يرضى عن القوم الكافرين. وهذا المعنى كقوله تعالى في قراءة الجمهور: {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} أي وإن يطلبوا العتبى ـ وهي الرضا عنهم لشدة جزعهم ـ فما هم من المعتبين. بصيغة اسم المفعول: أي المعطين العتبى وهي الرضا عنهم. لأن العرب تقول: أعتبه إذا رجع إلى ما يرضيه ويسره، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
أي لا يرجع الدهر إلى مسرة من جزع ورضاه. وقول النابغة: فإن كنت مظلومًا فعبد ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
وأما قول بشر بن أبي خازم: غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يعني أعتبناهم بالسيف، أي أرضيناهم بالقتل. فهو من قبيل التهكم، كقول عمرو بن معدي كرب: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
لأن القتل ليس بإرضاء، والضرب الوجيع ليس بتحية.
وأما على قراءة من قرأ {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا} بالبناء للمفعول {فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} بصيغة اسم الفاعل، فالمعنى: أنهم لو طلبت منهم العتبى وردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله وطاعة رسله، فما هم من المعتبين: أي الراجعين إلى ما يرضي ربهم، بل يرجعون إلى كفرهم الذي كانوا عليه أولًا. وهذه القراءة كقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا رأوا العذاب لا يخفف عنهم، ولا ينظرون أي لا يمهلون، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. وبين أنهم يرون النار وأنها تراهم، وأنها تكاد تتقطع من شدة الغيظ عليهم. كقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}، وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً}، وقوله: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}، وقوله: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُور َكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}، وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المشركين يوم القيامة إذا رأوا معبوداتهم التي كانوا يشركونها بالله في عبادته قالوا لربهم: ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك? وأن معبوداتهم تكذبهم في ذلك فيقولون لهم: كذبتم? ما كنتم إيانا تعبدون?
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}، وقوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}، وقوله: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}، وقوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
فإن قيل: كيف كذبتهم آلهتهم ونفوا أنهم عبدوهم، مع أن الواقع خلاف ما قالوا، وأنهم كانوا يعبدونهم في دار الدنيا من دون الله فالجواب ـ أن تكذيبهم لهم منصب على زعمهم أنهم آلهة، وأن عبادتهم حق، وأنها تقربهم إلى الله زلفى. ولا شك أن كل ذلك من أعظم الكذب وأشنع الافتراء. ولذلك هم صادقون فيما ألقوا إليهم من القول، ونطقوا فيه بأنهم كاذبون. ومراد الكفار بقولهم لربهم: هؤلاء شركاؤنا، قيل ليحملوا شركاءهم تبعة ذنبهم.
وقيل: ليكونوا شركاءهم في العذاب، كما قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ}، وقد نص تعالى على أنهم وما يعبدونه من دون الله في النار جميعًا في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}. وأخرج من ذلك الملائكة وعيسى وعزيرًا بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}، لأنهم ما عبدوهم برضاهم. بل لو أطاعوهم لأخلصوا العبادة لله وحده جلَّ وعلا. قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. إلقاؤهم إلى الله السلم: هو انقيادهم له، وخضوعهم. حيث لا ينفعهم ذلك كما تقدم في قوله: {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ}. والآيات الدالة على ذلك كثيرة. كقوله: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} ونحو ذلك من الآيات. وقد قدمنا طرفًا من ذلك في الكلام على قوله: {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ}.
وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي غاب عنهم واضحمل ما كانوا يفترونه. من أن شركاءهم تشفع لهم وتقربهم إلى الله زلفى. كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ}، وكقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. وضلال ذلك عنهم مذكور في آيات كثيرة. كقوله تعالى: {وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، وقوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. وقد قدمنا معاني "الضلال" في القرآن وفي اللغة بشواهدها. قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}. اعلم أولًا أن "صد" تستعمل في اللغة العربية استعمالين: أحدهما ـ أن تستعمل متعدية إلى المفعول، كقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، ومضارع هذه المتعدية "يصد" بالضم على القياس، ومصدرها "الصد" على القياس أيضًا. والثاني ـ أن تستعمل "صد" لازمة غير متعدية إلى المفعول، ومصدر هذه "الصدود" على القياس، وفي مضارعها الكسر على القياس، والضم على السماع. وعليهما القراءتان السبعيتان في قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} بالكسر والضم.
فإذا عرفت ذلك ـ فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} محتمل لأن تكون "صد" متعدية، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. على حد قوله في الخلاصة: وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابًا أو حصر
ومحتمل لأن تكون "صد" لازمة غير متعدية إلى المفعول، ولكن في الآية الكريمة ثلاث قرائن تدل على أن "صد" متعدية، والمفعول محذوف، أي وصدوا الناس عن سبيل الله.
الأولى ـ أنا لو قدرنا "صد" لازمة، وأن معناها: صدودهم في أنفسهم عن الإسلام ـ لكان ذلك تكرارًا من غير فائدة مع قوله {الَّذِينَ كَفَرُوا} بل معنى الآية: كفروا في أنفسهم، وصدوا غيرهم عن الدين فحملوه على الكفار أيضًا.
القرينة الثانية ـ قوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} فإن هذه الزيادة من العذاب لأجل إضلالهم غيرهم، والعذاب المزيدة فوقه: هو عذابهم على كفرهم في أنفسهم. بدليل قوله في المضلين الذين أضلوا غيرهم: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}. كما تقدم إيضاحه.
القرينة الثالثة ـ قوله: {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} فإنه يدل على أنهم كانوا يفسدون على غيرهم مع ضلالهم في أنفسهم، وقوله {فَوْقَ الْعَذَابِ} أي الذي استحقوه بضلالهم وكفرهم. وعن ابن مسعود. أن هذا العذاب المزيد: عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم. أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها? والعلم عند الله تعالى.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ َإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم، وأنه يأتي بنبينا صلى الله عليه وسلم شاهدًا علينا. وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً}، وكقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}، وكقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، إلى غير ذلك من الآيات. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي" قال: فقلت يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟? قال: "نعم. إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت "سورة النساء" حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً} فقال: "حسبك الآن" فإذا عيناه تذرفان اهـ.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} منصوب بـ "اذكر" مقدرًا. والشهيد في هذه الآية فعيل بمعنى "فاعل، أي شاهدًا عليهم من أنفسهم. قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه نزل على رسوله هذا الكتاب العظيم تبيانًا لكل شيء. وبين ذلك في غير هذا الموضع، كقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} على القول بأن المراد بالكتاب فيها القرآن. أما على القول بأنه اللوح المحفوظ. فلا بيان بالآية. وعلى كل حال فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء. والسنة كلها تدخل في آية واحدة منه. وهي قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.
وقال السيوطي في "الإكليل" في استنباط التنزيل" قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن". قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم". أخرجه الترمذي، وغيره وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا خديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن. فإن فيه خبر الأولين والآخرين. قال البيهقي: أراد به أصول العلم. وقال الحسن البصري: أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان. ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان، ثم أودع علوم القرآن: المفصل، ثم أودع علوم المفصل: فاتحة الكتاب. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير الكتب المنزلة. أخرجه البيهقي "في الشعب".
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع شرح السنة شرح للقرآن.
وقال بعض السلف:
ما سمعت حديثًا إلا التمست له آية من كتاب الله.
وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال ابن مسعود أيضًا: أنزل في القرآن كل علم، وبين لنا فيه كل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة".
وقال الشافعي أيضًا: جميع ما حكم به النَّبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن.
قلت: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه" رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة.
وقال الشافعي أيضًا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة؟ قلنا: ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة. لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرض علينا الأخذ بقوله.
وقال الشافعي مرة بمكة: سلوني عما شئتم، أخبركم عنه من كتاب الله. فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد لك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". وحدثنا سفيان، عن مسعر بن كدام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل المحرم الزنبور.
وروى البخاري عن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله، فقالت له امرأة في ذلك. فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله. فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول؟? قال: لئن قرأتيه لقد وجدتيه? أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه.
وقال ابن برجان: ما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن، أو فيه أصله قرب أو بعد، فهمه من فهم، أو عمه عنه من عمه، وكذا كل ما حكم أو قضى به.
وقال غيره: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى. حتى إن بعضهم استنبط عمر النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين من قوله "في سورة المنافقين": {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها "بالتغابن" ليظهر التغابن في فقده.
وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط بها علمًا حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلا ما استأثر الله به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم. مثل الخلفاء الأربعة، ومثل ابن مسعود، وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله. ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه. فنوعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعد كلماته وآياته، وسوره وأجزائه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة. من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه. فسموا القراء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة وغيرها. وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال، واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به. حتى إن بعضهم أعرب مشكله. وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر. فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا الخفي منه، وخاضوا إلى ترجيح أحد محتمالات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية، والشواهد الأصلية والنظرية. مثل قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده، وبقائه وقدمه، وقدرته وعلمه، وتنزيهه عما لا يليق به. وسموا هذا العلم بـ "أصول الدين".
وتأملت طائفة معاني خطابه. فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك. فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإضمار، والنص والظاهر، والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء. وسموا هذا الفن "أصول الفقه".
وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام، وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله وفروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا.
وسموه بـ "علم الفروع" وبـ "الفقه أيضًا".
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم. حتى ذكروا بدء الدنيا، وأول الأشياء: وسموا ذلك بـ "التاريخ والقصص".
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال. فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذكر الموت والمعاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار ـ فصولًا من المواعظ، وأصولًا من الزواجر. فسموا بذلك "الخطباء والوعاظ".
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير. مثل ما ورد في قصة يوسف: من البقرات السمان، وفي منامي صاحبي السجن، وفي رؤية الشمس والقمر والنجوم ساجدات، وسموه "تعبير الرؤيا". واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب. فإن عز عليهم إخراجها منه، فمن السنة التي هي شارحة الكتاب، فإن عسر فمن الحكم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}.
وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها، وغير ذلك "علم الفرائض" واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث، والربع والسدس والثمن "حساب الفرائض"، ومسائل العول. واستخرجوا منه أحكام الوصايا.
ونظر قوم إلى ما فيه الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله، والنجوم والبروج، وغير ذلك ـ فاستخرجوا "علم المواقيت".
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم، وحسن السياق والمبادىء، والمقاطيع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك. فاستنبطوا منه "علم المعاني والبيان والبديع".
ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة. فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق، جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل الغناء والبقاء، والحضور والخوف والهيبة، والأنس والوحشة، والقبض والبسط، وما أشبه ذلك.
هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه.
وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل، مثل: الطب والجدل والهيئة، والهندسة والجبر، والمقابلة والنجامة، وغير ذلك.
أما الطب ـ فمداره على حفظ نظام الصحة، واستحكام القوة. وذلك إنما يكون باعتدال المزاج تبعًا للكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}.
وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله: {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب، وشفاء الصدور.
وأما الهيئة ـ ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السموات والأرض، وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.
وأما الهندسة ـ ففي قوله: {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} فإن فيه قاعدة هندسية، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له.
وأما الجدل ـ فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول بالموجب، والمعارضة، وغير ذلك شيئًا كثيرًا، ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم.
وأما الجبر والمقابلة ـ فقد قيل: إن أوائل السور ذكر عدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة الدنيا، وما مضى وما بقي، مضروبًا بعضها في بعض.
وأما النجامة ـ ففي قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} فقد فسره ابن عباس بذلك.
وفيه من أصول الصنائع، وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها ـ فمن الصنائع الخياطة في قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ}. والحدادة في قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}، وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}. والبناء في آيات، والنجارة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ}، والغزل {نَقَضَتْ غَزْلَهَا}، والنسج {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}، والفلاحة {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} في آيات أخر، والصيد في آيات، والغوص {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء َغَوَّاصٍ}، {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً}، والصياغة {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً}، والزجاجة {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ}، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}، والفخارة {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ}، والملاحة {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}، والكتابة {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} في آيات أخر، والخبز والطحن {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}، والطبخ {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}، والغسل والقصارة {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم القصارون، والجزارة {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}، والبيع والشراء في آيات كثيرة، والصبغ {صِبْغَةَ اللّهِ}، {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ}، والحجارة {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً}، والكيالة والوزن في آيات كثيرة، والرمي {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}، {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}.
وفيه من أسماء الآلات، وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ـ ما يحقق معنى قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} انتهى كلام المرسي ملخصًا مع زيادات.
قلت: قد اشتمل كتاب الله على كل شيء. أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل، إلا وفي القرآن ما يدل عليها. وفيه علم عجائب المخلوقات، وملكوت السموات والأرض، وما في الأفق الأعلى، وما تحت الثرى، وبدء الخلق، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة، وعيون أخبار الأمم السالفة. كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة، وفي الولد الذي سماه عبد الحارث، ورفع إدريس وإغراق قوم نوح، وقصة عاد الأولى والثانية، وثمود، والناقة، وقوم لوط، وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين. وقوم تبع، ويونس، وإلياس، وأصحاب الرس، وقصة موسى في ولادته وفي إلقائه في اليم، وقتله القبطي، ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب، وكلامه تعالى بجانب الطور، وبعثه إلى فرعون، وخروجه وإغراق عدوه، وقصة العجل، والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصعقة، وقصة القتال وذبح البقرة، وقصته في قتال الجبارين، وقصته مع الخضر والقوم الذين ساروا في سرب من الأرض إلى الصين، وقصة طالوت وداود مع جالوت وقتله، وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ وفتنته، وقصة القوم الذين خرجوا فرارًا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم، وقصة إبراهيم في مجادلته قومه، ومناظرته النمروذ، ووضعه إسماعيل مع أمه بمكة، وبنائه البيت، وقصة الذبيح، وقصة يوسف وما أبسطها، وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه، وقصة زكريا وابنه يحيى، وأيوب وذي الكفل، وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبنائه السد، وقصة أصحاب الكهف والرقيم، وقصة بختنصر، وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة، وقصة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصر منها مصبحين، وقصة مؤمن آل فرعون، وقصة أصحاب الفيل، وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء. وفيه من شأن النَّبي صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم به، وبشارة عيسى وبعثه وهجرته. ومن غزواته: غزوة بدر (في سورة الأنفال) وأحد (في آل عمران) وبدر الصغرى فيها، والخندق (في الأحزاب)، والنضير (في الحشر)، والحديبية ( في الفتح)، وتبوك (في براءة)، وحجة الوداع (في المائدة)، ونكاحه زينب بنت جحش، وتحريم سريته، وتظاهر أزواجه عليه، وقصة الإفك، وقصة الإسراء، وانشقاق القمر، وسحر اليهود إياه.
وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته، وكيفية الموت، وقبض الروح وما يفعل بها بعد صعودها إلى السماء، وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة، وعذاب القبر والسؤال فيه، ومقر الأرواح، وأشراط الساعة الكبرى العشرة، وهي:
نزول عيسى، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، والدابة، والدخان، ورفع القرآن، وطلوع الشمس من مغربها، وإغلاق باب التوبة، والخسف.
وأحوال البعث: من نفخة الصور، والفزع، والصعق، والقيام، والحشر والنشر، وأهوال الموقف، وشدة حر الشمس، وظل العرش، والصراط، والميزان، والحوض، والحساب لقوم، ونجاة آخرين منه، وشهادة الأعضاء، وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهور، والشفاعة، والجنة وأبوابها، وما فيها من الأشجار والثمار والأنهار، والحلي والألوان، والدرجات، ورؤيته تعالى، والنار وما فيها من الأودية، وأنواع العقاب، وألوان العذاب، والزقوم والحميم، إلى غير ذلك مما لو بسط جاء في مجلدات.
وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث. وفيه من أسمائه مطلقًا ألف اسم، وفيه من أسماء النَّبي صلى الله عليه وسلم جملة.
وفيه شعب الإيمان البضع والسبعون.
وفيه شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمس عشرة.
وفيه أنواع الكبائر وكثير من الصغائر.
وفيه تصديق كل حديث ورد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ـ هذه جملة القول في ذلك اهـ كلام السيوطي (في الإكليل).
وإنما أوردناه برمته مع طوله. لما فيه من إيضاح: أن القرآن فيه بيان كل شيء. وإن كانت في الكلام المذكور أشياء جديرة بالانتقاد تركنا مناقشتها خوف الإطالة المملة، مع كثرة الفائدة في الكلام المذكور في الجملة.
وفي قوله تعالى: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} وجهان من الإعراب:
أحدهما ـ أنه مفعول من أجله. والثاني ـ أنه مصدر منكر واقع حالًا. على حدِّ قوله في الخلاصة:
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
تنبيه
أظهر القولين: أن التبيان مصدر، ولم يسمع كسر تاء التفعال مصدرًا إلا في التبيان والتلقاء. وقال بعض أهل العلم: التبيان اسم لا مصدر. قال أبو حيان (في البحر): والظاهر أن "تبيانًا" مصدر جاء على تفعال، وإن كان باب المصادر يجيء على تفعال (بالفتح) كالترداد والتطواف. ونظير تبيان في كسر تائه: تلقاء، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن. وقال ابن عطية: "تِبْيَانًا" اسم وليس بمصدر. وهو قول أكثر النحاة. وروى ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين: أنه مصدر، ولم يجىء على تفعال من المصادر إلا ضربان:
تبيان وتلقاء اهـ ـ والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم هدى ورحمة وبشرى للمسلمين. ويفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة ـ أي مفهوم مخالفتها ـ: أن غير المسلمين ليسوا كذلك. وهذا المفهوم من هذه الآية صرح به جل وعلا في مواضع أخر. كقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً}، وقوله جل وعلا: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} في الموضعين. قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن يأمر خلقه بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى. وأنه ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي. لأجل أن يتَّعظوا بأوامره ونواهيه، فيمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهيه. وحذف مفعول "يأمر"، "وينهي" لقصد التعميم.
ومن الآيات التي أمر فيها بالعدل قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وقوله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}.
ومن الآيات التي أمر فيها بالإحسان قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وقوله: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}، وقوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} وقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ}.
ومن الآيات التي أمر فيها بإيتاء ذي القربى قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقوله {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}، وقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ}، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات التي نهى فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، وقوله: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} والمنكر وإن لم يصرح باسمه في هذه الآيات، فهو داخل فيها.
ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} فهذا عدل، ثم دعا إلى الإحسان بقوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} وقوله {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}، وقوله {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}، فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وقوله {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِا لسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} إلى غير ذلك من الآيات.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن العدل في اللغة: القسط والإنصاف، وعدم الجور. وأصله التوسط بين المرتبتين. أي الإفراط والتفريط. فمن جانب الإفراط والتفريط فقد عدل. والإحسان مصدر أحسن، وهي تستعمل متعدية بالحرف نحو: أحسن إلى والديك. ومنه قول تعالى عن يوسف: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}. وتستعمل متعدية بنفسها. كقولك: أحسن العامل عمله، أي أجاده وجاء به حسنًا. والله جل وعلا يأمر بالإحسان بمعنييه المذكورين، فهما داخلان في الآية الكريمة، لأن الإحسان إلى عباد الله لوجه الله عمل أحسن فيه صاحبه. وقد فسر النَّبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وقد قدمنا إيضاح ذلك (في سورة هود).
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا. كقول ابن عباس: العدل: لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض. لأن عبادة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط، وتجنب التفريط والإفراط. ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد أحسن. ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات: "أفلح إن صدق". وكقول سفيان: العدل: استواء العلانية والسريرة. والإحسان: أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وكقول علي رضي الله عنه: العدل: الإنصاف. والإحسان: التفضل. إلى غير ذلك من أقوال السلف. والعلم عند الله تعالى: وقوله {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. الوعظ: الكلام الذي تلين له القلوب.
تنبيه
فإن قيل: يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي. كقوله هنا {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} إلى قوله {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}، وكقوله في (سورة البقرة) بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة: {ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّخِرِ}، وقوله (في الطلاق) في نحو ذلك أيضًا: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. مع أن المعروف عند الناس: أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك، لا بالأمر والنهي.
فالجواب ـ أن ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم نواهيه. فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله. وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه. فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفًا وطمعًا. والفحشاء في لغة العرب: الخصلة المتناهية في القبح. ومنه قيل لشديد البخل: فاحش. كما في قول طرفة في معلقته:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
والمنكر اسم مفعول أنكر. وهو في الشرع: ما أنكره الشرع ونهى عنه، وأوعد فاعله العقاب. والبعي: الظلم.
وقد بين تعالى: أن الباغي يرجع ضرر بغيه على نفسه في قوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}، وقوله: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}. وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى}. أي صاحب القرابة من جهة الأب أو الأم، أو هما معًا. لأن إيتاء ذي القربى صدقة وصلة رحم. والإيتاء: الإعطاء. وأحد المفعولين محذوف. لأن المصدر أضيف إلى المفعول الأول وحذف الثاني. والأصل وإيتاء صاحب القرابة. كقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}. قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ}. أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عباده أن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا. وظاهر الآية أنه شامل لجميع العهود فيما بين العبد وربه، وفيما بينه وبين الناس. وكرر هذا في مواضع أخر. كقوله (في الأنعام) {وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ}، وقوله في (الإسراء): {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}. وقد قدمنا هذا (في الأنعام).
وبين في مواضع أخر: أن من نقض العهد إنما يضر بذلك نفسه، وأن من أوفى به يؤتيه الله الأجر العظيم على ذلك. وذلك في قوله: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}. وبين في مواضع آخر: أن نقض الميثاق يستوجب اللعن. وذلك في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}. قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ما عنده من نعيم الجنة باق لا يفنى. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، وقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}، وقوله: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سيجزي الذين صبروا أجرهم ـ أي جزاء عملهم ـ بأحسن ما كانوا يعلمون.
وبين في مواضع آخر: أنه جزاء بلا حساب. كما في قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
تنبيه
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة: أن فعل المباح حسن. لأن قوله في هذه الآية {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ} صيغة تفضيل تدل على المشاركة، والواجب أحسن من المندوب، والمندوب أحسن من المباح. فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب، دون مشاركهما في الحسن وهو المباح. وعليه درج في مراقي السعود في قوله:
ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن
إلا أن الحسن ينقسم إلى حسن وأحسن. ومن ذلك قوله تعالى لموسى {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا}. فالجزاء المنصوص عليه في قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} حسن. والصبر المذكور في قوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} أحسن. وهكذا. وقرأ هذا الحرف ابن كثير وعاصم وابن ذكوان بخلف عنه "ولنجزين" بنون العظمة. وقرأه الباقون بالياء، وهو الطريق الثاني لابن ذكوان.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن كل عامل سواء كان ذكرًا أو أنثى عمل عملًا صالحًا فإنه جل وعلا يقسم ليحيينه حياة طيبة، وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل.
اعلم أولًا ـ أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور:
الأول ـ موافقته لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم. لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.
الثاني ـ أن يكون خالصًا لله تعالى. لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}.
الثالث ـ أن يكون مبنيًا على أساس العقيدة الصحيحة. لأن الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فقيَّد ذلك بالإيمان، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح.
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات كثيرة، كقوله في عمل غير المؤمن: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}، وقوله: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}، إلى غير ذلك من الآيات.
واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة.
فقال قوم: لا تطيب الحياة إلا في الجنة، فهذه الحياة الطيبة في الجنة. لأن الحياة الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار، والأمراض والآلام والأحزان، ونحو ذلك. وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. والمراد بالحيوان: الحياة.
وقال بعض العلماء: الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه، ويرزقه العافية والرزق الحلال. كما قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
قال مقيده عفا الله عنه: وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية: حياته في الدنيا حياة طيبة. وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة: حياته في الجنة في قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} صار قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} تكرارًا معه. لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم. بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا. فإنه يصير المعنى: فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل، وهو واضح.
وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيِّده السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة: أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه فسرها بالقناعة، وكذا قال ابن عباس وعكرمة، ووهب بن منبه ـ إلى أن قال ـ وقال الضحاك: هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك: هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك أيضًا ـ هي العمل بالطاعة والانشراح بها.
والصحيح ـ أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه". ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقرى به. وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانيء. عن أبي علي الجنبي، عن فضالة بن عبيد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع به" وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا" انفرد بإخراجه مسلم اهـ من ابن كثير.
وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول: بأن الحياة الطيبة في الدنيا. لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح" يدل على ذلك لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "يعطى بها في الدنيا" يدل على ذلك أيضًا. وابن كثير إنما ساق الأحاديث المذكورة لِيُنَبِّهَ على أنها ترجح القول المذكور. والعلم عند الله تعالى.
وقد تقرر في الأصول: أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس رجح حمله على التأسيس: وإليه أشار في مراقي السعود جامعًا له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين بقوله:
كذاك ما قابل ذا اعتلال من التأصل والاستقلال
ومن تأسس عموم وبقا الأفراد والإطلاق مما ينتقي
كذاك ترتيب لإيجاب العمل بماله الرجحان مما يحتمل